ربما يمثل الصراع بين الشكّ واليقين، بين الكفر والإيمان، أحد أهمّ محرّكات التطوّر البشري، خاصّةً وأنّه شكّل رافعة تحرّر العقل من أوهامه وتطوّر الفكر في تجلّياته الفلسفية والعلمية وانعكاساتها على حقول المعرفة الأخرى وأنسنة الحياة. هذا ما سعت المؤرخة الأمريكية جينيفر مايكل هيكت ـ وهي باحثةٌ أكاديميةٌ فضلاً عن كونها شاعرةً مرموقة ـ إلى إثباته واستخلاصه، من خلال رصد جدل الشكّ والإيمان عبر التاريخ المكتوب في شتّى أصقاع العالمين القديم والحديث والسياق التاريخي الذي رافقه، في نيّفٍ وخمسمائة صفحة من كتابها "تاريخ الشكّ".
موضوع هذا الكتاب هو الشكّ، وعلى نحوٍ أخصّ الشكّ الديني. قد يظنّ المرء أنّ الكتاب يتعرّض للأديان مختفياً وراء عنوانٍ حداثيٍّ أو أنّه يهاجمها على نحوٍ موارب، لكنّه مجرّد كتابٍ عن الشكّ : ماهيّته وتجلّياته التاريخية والشكّاكون في التاريخ، وتأثير الشكّ على الأديان وعلى الثقافة
تكشف مقدّمة الكتاب فحوى منطقه، "ظهر أوّل شكٍّ مسجّلٍ في التاريخ منذ ألفين وستمائة عام، ما يجعله أقدم من كافّة المعتقدات الإيمانية. وتختصر حكايته عبارة أنّ الشغف بالحقيقة أدّى إلى انتصاراتٍ فذّة."
فمن خلال عرض تاريخ الشكّ، تتبدّى بضعة أمورٍ حول الدين، منها أولوية الإيمان على الشكّ، وتحوّل ثقافة الشكّ إلى نوعٍ من الاعتقاد الفاعل يتموضع في صلب المعتقدات المعاصرة. فقبل أن يغرق الإغريق المكتبات بشتى أصناف الشكوكيّة (مذهب الشكّ) والعلمانية، لم يفكّر أحدٌ مطلقاً في محاولة عقلنة أي دين. وكذلك، أنّ الشكّ ألهم الدين في كلّ عصر : من أفلاطون إلى القدّيس أوغسطين إلى المعتزلة إلى ديكارت وباسكال، حيث حدّد الدين طبيعته من خلال أسئلة الشكّ، وهو أمرٌ متواصلٌ حتى اليوم.
الشكّاكون منتجون بطبيعة الحال، لسببٍ واضحٍ أساسه نزوعهم إلى البحث والتحقّق وكذلك إضفاء معنى على حياتهم الشخصية. فالكثير من العلماء والأطباء ارتابوا في العقائد الدينية، ومن ضمنهم غاليلو عالم الفيزياء، وابن ميمون الباحث والطبيب اليهودي، وأبو بكر الرازي الطبيب والفيلسوف المسلم، وعالمة الفيزياء ماري كوري. تتسبّب المنهجية العلمية أحياناً بتوليد الشكوك من خلال طرائقها في الافتراض والبرهان. كما أنّ العديد من المنظّرين الأخلاقيين لقضايا الديمقراطية وحرّية التعبير والمساواة كانوا شكّاكين، ومن بينهم في المرحلة الحديثة توماس جيفرسون وجون ستيوارت ميل. وكذلك كان دافع إبداع كبار الشعراء، من لوكريتس وأوفيد إلى جون كيتس وإميلي ديكنسون، ارتيابهم بوجود الله والحياة الأخرى وتوجّب عليهم أن يكدّوا لتقديم إجاباتٍ على ما اعترضهم من أسئلة.
لا ينصبّ اهتمام المؤلّفة على إنكار الدين بقدر ما ينصبّ على الخطّ الناظم لهذه الفكرة. فغالباً ما تعرض لنا أولئك المفكرين الذين افترضوا أنّ للعالم هيئةً تخالف ما قيل لهم عنه. كما أنّها - وفيما توفّر لنا إطاراً مرجعياً واسعاً في تجوالنا عبر التاريخ- تضع لنفسها هدفاً بعيد المنال من خلال سعيها إلى تتبّع فكرةٍ متلوّيةٍ تركها لنا التاريخ من خلال بضع وثائق مكتوبة. لكنها لا تحصر مهمّتها في أوروبا، بل تلقي أيضاً نظرةً شاسعةً على آسيا.
إنّها تسرد حكايتها المتراكمة بلغةٍ دقيقةٍ لكنّها سهلة المنال. وإن كانت تملك قدرة الانسياق إلى التجريدات المعقدة، لكنّها تعايش مادتها ولا تقدّم لنا إلاّ ما نحتاجه لمتابعة الأفكار وتقلّباتها عبر التاريخ.
ومع أنّ المؤلفة تسمح لنفسها ببعض التجاوزات (من قبيل تأويلها للكوجيتو الديكارتي "أنا أفكّر إذاً أنا موجود" على هيئة: "أنا أشكّ، إذاً أنا موجود")، لكنّها، ومن خلال عرضها المركّز للمدارس الفكرية والسياق التاريخي المتّصل بمؤيّديها ومناهضيها، لم تقدّم براهينها أو بيّناتها إلاّ بوصفها مقترحاتٍ قابلةً للنقاش، بل إنّها طالبتنا بمساءلة معارفنا والكيفية التي نسائل فيها القضايا المطروحة في الماضي.
تحتفي جينيفر مايكل هيكت في تاريخها المطوّل الشامل بالشكّ بوصفه محرّكاً للإبداع وبديلاً عن مخاطر اليقين، السياسية منها والفكرية، "غالباً ما يدفع الشكّ العالم نحو الإبداع والتقدّم، في حين يشكّل الإيمان الأعمى القائم على التفسير الحرفي للنصوص المقدّسة قوّةً رجعيّةً تكبح أيّ تطوّر". وكما يحفل تاريخ الإيمان بأشخاصٍ غيّرت تعبيراتهم الفذّة عن الإيمان العالم، كذلك يحفل تاريخ الشكّ بقدّيسيه وشهدائه وحكمائه.
لا تسعى قراءة التاريخ إلى اكتشاف وقائع جديدة، بل إلى تعرية استنتاجاتٍ حديثة. وهو ما أجادت المؤلفة القيام به. فالكثير من الوقائع والتواريخ والشخصيات التاريخية التي استخدمتها لسرد تاريخها مألوفة، لكنّها وضعتها في سياقٍ يستخلص مقداراً وافراً من الاستنتاجات الجديدة من خلال إعادة سردها للأحداث التي تأسّست عليها روايتها. تمسّ هذه الاهتمامات بالضرورة شؤون الدين، فضلاً عن العلم والثقافة. فحين تعرض الشكّ في التاريخ، تبتكر ظلالاً لتلك الأمور التي يمسّها الشكّ، مقدّمةً للقارئ فهماً جديداً لظاهر المشهد وما يختفي وراءه. تتشابك سداة الشكّ في نسيج التاريخ مع لحمة العلم والشكوكيّة والمذهب الطبيعي والعقلانية لتساهم في صياغة الحكاية.
تمزج المؤلفة معارفها التاريخية الواسعة وإجلالها لكبار الشكّاكين بحساسيّة الشاعر لتنقل إلينا حكايةً مثيرةً تغطّي جانباً من تاريخ الأفكار. كما أنّها تعرض علينا البشر العاديّين وهم يطرحون على أنفسهم الأسئلة العويصة التي تواجهنا جميعاً. تحتفل بأبطال الشكّ ـ كونفوشيوس وسقراط والمسيح ووانغ تشونغ وابن ميمون وغاليلو وداروين وغيرهم كثيرون ممّن غيّروا التاريخ من خلال تحدّي سلطات المعرفة السائدة في عصرهم وموروثهم الفكري.
لا ترى المؤلفة في تاريخ الشكّ مأثورَ تحدّي المعتقدات الدينية الدارجة - ومن ضمنها وجود الله- فحسب، بل تعاقباً في محاولات عقلنة الحياة والطبيعة والنفس. كما أنّها تبرز تفكّر كبار الشكّاكين في القضايا الجوهرية عينها التي تفكّر فيها كبار المؤمنين. يكشف الكتاب، وربّما لأوّل مرّةٍ، الكيفية التي أبدع فيها الشكّاكون، بشجاعةٍ وعلى نحوٍ خلاّقٍ، إجاباتهم على أسئلة الحياة الكبرى.
الشكوكية ملازمةٌ للتفكير، "يحظى مفهوم أرسطو التجريبي حول الكون بأهمّيةٍ خاصّةٍ في تاريخ الشكّ بسبب دفاعه عن العقلانية. فقد وعى من خلال مؤلفاته ضرورة إعمال العقل وإقامة الحجّة والبرهان، وتعامل منذ بداياته مع مختلف حقول المعرفة : من علم الأحياء البحرية إلى المنطق، إلى علم السياسة وعلم الأخلاق وعلم النفس". كما تلخّص حكمةٌ بوذيّةٌ قديمةٌ أهميّة الشك : "شكٌّ هائلٌ يساوي نهضةً عظيمة، شكٌّ محدودٌ يعادل نهضةً ضئيلة، انتفاء الشكّ يعادل انتفاء النهضة". هكذا، ومن خلال تعرية الشكّ والكفر لسلطات المعرفة اليقينية، تتغذّى الاكتشافات الفكرية. لكنّ غالبية البحوث تركّز على أنظمة الاعتقاد التي تحدّد تاريخ الأديان وتنفي الشكّاكين من الذاكرة الحيّة.
يعرض نثر المؤلفة الشاعريّ ملحمة الصراع بين الإيمان والكفر نيابةً عن التيارات التاريخية وكفاحات البشر في مواجهة أوهامهم، مبرزاً تحوّل الشكّ عبر التاريخ إلى محرّكٍ هائلٍ عجّل الكثير من الاكتشافات السياسية والدينية والعلمية.
ما يذهل في الكتاب تغطية المؤلفة لما يقارب مجمل التاريخ المكتوب، حيث تتضمّن لوحتها عن الشكّ الوثنيةَ التقليدية والمسيحية والإسلام واليهودية والهندوسية واليانية والبوذية ومعتقداتٍ أخرى، وملاحقتها درب الشكّ المتعرّج منذ الانقسامات ما قبل السقراطية وأصحاب البدع الدينية الأوائل في آسيا، وامتزاج الأفكار الدينية والفلسفية الغربية والشرقية في العصور الوسطى، وهو أمرٌ لا توفّره السرديات التاريخية المألوفة، وصولاً إلى صعود الشكّ لاقتحام بوابات الحداثة مع الكوجيتو الديكارتي. كما تجذب، بكتابتها المرهفة، القارئ نحو التفكّر في بعضٍ من أكثر الأسئلة المطروحة سرمديّةً.
من المرجّح أنّ المؤلفة شكّاكة، لكنّها تعالج موضوعها من دون تحيّز. ما يتيح، عبر معالجتها النقدية، تآلف تلك المعتقدات الدينية المختلفة ظاهرياً في الذهن، وإبراز ما تشترك فيه من قوىً روحية متشابهة وضعفٍ فكري. ومن خلال عرضها لمحاولات الصراطيين الدؤوبة خلال التاريخ لنبذ أصحاب البدع والمفكّرين الأحرار وقمعهم، تتّسع منظومة الشكّ في عملها لتتضمّن كثيراً من المرتدّين والملحدين. وتقدّم سلالاتٍ فذّةً من الشكّاكين من قبيل الشكّاكين الإسلاميين الذين تأثّروا في العصور الوسطى بالفلسفة الكلاسيكية، والشكّاكين اليهود في العصر الهيليني الذين افتتنوا بثقافته الحيوية والمترفة وحاولوا دمج اليهودية والوثنية.
هذا الكتاب ليس تاريخاً للإلحاد أو لإنكار وجود الله أو الآلهة أو أي وجودٍ مغايرٍ للطبيعة بقدر ما هو تاريخٌ للشكّ ودراسةٌ شاملةٌ غير متحيّزةٍ له من شتى المنطلقات : شكوك القدّيسين والآثمين والفنانين والسياسيين والكتّاب والعامّة. هكذا، وحيث يمكن للمرء أن يتوقّع وجود دعاة الشكّ، من أمثال سبينوزا، يُفاجأ بقيام المؤلفة بتفحّص شكوك دعاة الإيمان من أمثال المسيح وأوغسطين ومارتن لوثر. فهي تكتشف الشكّ في مواضع لا يتخيّلها المرء. تجوب المؤلفة العالم، عارضةً كوكبةً من الشخصيات الشهيرة والمغمورة تجمعها سمة الشكّ، ما يؤكّد احتفاءها بهم. ورغم أنّ ثقافة الغرب تستغرقها أكثر من ثقافة الشرق، إلاّ أنّها تبذل جهداً صادقاً لتضمين الشكّ الشرقي، بعوالمه المختلفة، في النقاش.
قدمت المؤلفة سرداً بارعاً لتاريخ الفكر، وبألمعيةٍ استطاعت إرضاء القارئ بتوفير الإمتاع والقيمة المعرفية من خلال سردٍ فكريٍّ رصينٍ وأسلوبٍ يحيل أحياناً إلى جذورها الأدبية والشعرية. ورغم صفحات كتابها التي قد تثبّط القارئ العاديّ بطولها، وما تزخر به من تفصيلاتٍ تاريخية وفلسفية، فهو يستحقّ ما يبذل من جهدٍ لقراءته، فضلاً عن ترجمته إلى اللغة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق